السبل التي اعتمدها امناء ورفقاء شاركوا في الثورة الانقلابية 1961-1962
للعبور الى الشام ، فإلى الاردن حيث انتظمت الادارة العامة المؤقتة التي
قادت الحزب الى ان خرج الامين عصام المحايري من الأسر فحلت نفسها وأوكلت
إليه رئاسة الحزب المؤقتة ، يحكى عنها الكثير وهي شبيهة بقصص الأساطير ،
وتبين بطولات الرفقاء الذين سعوا ونفذوا وتولوا المهمات الصعبة في احلك
الظروف حيث كانت أعين المكتب الثاني تراقب كل شاردة وواردة ، ورجالاته
يحصون الانفاس .
هنا
وقائع العملية " البوليسية " التي تمّ فيها انتقال الامين عبدالله قبرصي
من حيث كان متوارياً في شقة في محلة قريطم البيروتية الى مرمريتا (الشام) .
*
صدر
لعبد الله قبرصي أربعة كتب تحت عنوان «عبد الله قبرصي يتذكر». ورحل منذ
شهر قبل أن يكحّل عينه بالكتاب الخامس الذي يصدر قريباً تحت العنوان نفسه.
ومع ذلك، فقد أبدى لي أسفه وندمه، خلال إحدى جلساتنا الدورية الأسبوعية،
لأنه لم يدوّن مذكراته في قصر العدل لتحتل مكانها في سلسلة الكتب الخاصة
بالمذكرات. لعلّ ما يقلل من الخسارة في هذا المجال، أن الكتب الأربعة
المتمحورة على ذكرياته السياسية والحزبية والعائلية، وبخاصة الجزء الثالث،
تحتضن صفحات غير قليلة من معاركه الحقوقية. ناهيك، بأن معظم مرافعاته في
الدعاوى الكبيرة، يمكن العثور عليها في بطون الصحف، من مثل هجومه على قتلة
الوزير والنائب نعيم مغبغب، أو دفاعه عن الشاعر والناثر الساخر محمد
الماغوط. والجدير ذكره، أن الصحف كانت تنشر مرافعات كبار
المحامين، أمثال إميل لحود وبهيج تقي الدين وحبيب أبو شهلا وعبد الله
قبرصي، لأنها ـ أي المرافعات ـ كانت لوحات أدبية تعجّ باللمعات الإبداعية.
طبعاً،
من حق الأمين عبد الله أن يندم أو يتأسف لأنه لم يصدر كتاباً مستقلاً حول
محطاته الرئيسية في المحاكم. ذلك أن المحاماة كانت محوراً رئيسياً في
حياته العامة، أسوة بالمحور الآخر: الأدب.
ولكن
حياته الحزبية التي بدأت في العام 1934 واستمرت حتى لحظة رحيله في العام
2007، لم تكن المحور الثالث وحسب، بل كانت محور المحاور. من هنا سرّ
تخصيصه لها معظم صفحات الأجزاء الخمسة من كتابه «عبد الله قبرصي يتذكر»،
إضافة إلى كتابه «نحن ولبنان»، ومئات المقالات والخطب والرسائل.
ولنعد
إلى المذكرات التي تحتل مكاناً مرموقاً، ليس فقط في نتاج عبد الله قبرصي
الأدبي، بل في لائحة الكتب العربية الخاصة بهذا اللون الأدبي الجذاب. كان
«المذكراتي» عبد الله يتوقف في المحطات الرئيسية في حياته الحزبية. ولما
كانت الأجزاء الأربعة من مذكراته قد خلت من وقفة طويلة في المحطة الرئيسية
الخاصة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في الليلة الأخيرة من العام
1961، وتداعياتها الخطيرة على الحزب القومي ولبنان وحياة العديد من الذين
اشتركوا فيها ومنهم عبد الله قبرصي، فقد خشي قراؤه من تغييب تلك المرحلة
الغنية الحافلة بالأحداث والتجارب والعبر. ولكن الخشية تنقلب إلى ترقّب
ممزوج بالفرح، عندما يعلم قراء الأديب المناضل أن الأشهر التي أمضاها في
شقة «مهجورة» والسنوات السبع التي عاشها في الأردن وباريس وفنزويلا، قد
خصص لها كتاباً مستقلاً يعج بالمفاجآت.
وفيما
يلي بعض صفحات الكتاب العتيد التي تنفرد بنشرها لأول مرة مجلة «تحولات»،
وتتضمن وقائع العملية البوليسية التي تم فيها انتقال العملاق الصغير
القامة من الشقة الكائنة في محلة «قريطم» البيروتية إلى مصيف «مرمريتا» في
جبال «وادي النصارى» الشامية.
*
كنت
قد تعبت من المخبأ رغم أني الفت مناخه وكوابيسه، وتسهّلت لي فيه الحياة
وطابت. زوجتي في الثلاثة أشهر الأخيرة كانت تزورني كل أسبوعين مرة وتبقى
في ضيافتي ثلاثة أيام أو أكثر والدتها كانت لا تبخل علي بالمكوث في مخبأي،
أولادي كانوا يتناوبون تقريباً كل ليلة، على النوم في غرفتي فأشعر بنعمة
الحياة واستنشق نسمات الحرية!
أهم
ما يجب تسجيله أن كل من قدم إلي، قَدم بناءً على خطة مدروسة. فضلاً عمّا
كنت أفعله من كتابة رسائل مغفلة ترسل إلى المكتب الثاني والأمن العام، على
أن عبد الله قبرصي، موجود في الكورة، في جبيل، في المتن، في الشوف، ليتوهم
المطاردون أني أتنقل عبر لبنان. سعيت في أيامي الأخيرة في المخبأ، بأن
تكتب جرائد لبنان وعمان، أني أصبحت في الأردن. كان يجب أن أقابل خطط
«العدالة» بخطط «الفرار». كان يجب أن أرفع ضغط المطاردة عن عائلتي وعني.
أفظع ما يؤرق الفار شكوكه وأوهامه ومخاوفه. لقد نجحت في وضع حد للمخاوف.
كنت قد تعودت أن أطمئن، أن أنظم الشعر، أن أقرأ بلا ملل، أن أفكر وأتأمل
في حياة داخلية غنية وخصبة.
ما
كان يأتي إلى مخبأي أحد إلا بعد دراسة لطريق الوصول، لخطة سير. فزوجتي
كانت تقضي نهاراً كاملاً لتصل إلي. فمن المشرفية إلى الشياح إلى فرن
الشباك إلى زيارات لبعض الأصدقاء لتصل في العاشرة مساءً، بعد أن تتثبت أن
الطابق الذي أنزل فيه خال من المارة.
وهكذا أولادي.
إلا إن المال نفد والأصدقاء الذين كان بالإمكان التوكؤ عليهم نفدوا.
لم يبق إلا الحزب.
القيادة
الحزبية في عمان أرسلت لي رسولاً تطلب أن أتوجه برفقته إليها. رفضت قبل أن
يصدر قرار الاتهام. لقد كان من حقي أن انتظر منع المحاكمة إذا أجمع الذين
عرفوا معارضتي للانقلاب على إعلان هذه المعارضة لرجال التحقيق.
أصررت
على أن تمدني القيادة بالمال. وذهب الرسول ليعود إلي، بالجواب المألوف في
حزبنا: «الخزانة فارغة». ومتى كانت ملآنة، هذه الخزانة للحزب ـ الدولة،
الذي لا يمد يده للمال الحرام. لا مال للهاربين. إذا توفر لنا بعضه فهو
وقف مرهون لعيال السجناء والسجناء.
في
النهاية، هذا حق. فالفار لا يزال يستمتع بنعمة الحرية الجزئية. الحرية لا
تزال في قاموسه ناهيك أن الفار نجا من عذاب جهنم. ما أطيب نسمات المطهر،
بالمقارنة مع نار جهنم!...
لم
تتخل القيادة المؤقتة في عمان، وقد كانت مؤلفة من الفارين، وبعض المقيمين،
لا عني ولا عن سواي في حدود ما تيسر لها من فكر ومال. والدليل أن رسولها
إلي عاد مرة ثانية لحملي على مغادرة لبنان.
كررت الرفض بانتظار قرار الاتهام.
وصدر
قرار الاتهام في الثالث من أيار 1962 فإذا باسمي بين الأسماء المرشحة
للرمي بالرصاص. كل التهم الموجهة إلي وإلى زملائي في المجلس الأعلى تهم
مميتة، أو هي تقضي بالاعتقال المؤبد!...
لم
أكن بحاجة إلى من يفسر لي المواد القانونية التي تطبق على وضعي. كنت قد
قرأتها. كنت أعرفها قبل محاولة الانقلاب. وأنا الذي قال بصوت عال: عن
ثلاثة من رؤوس الحزب ـ كما أسلفت القول ـ مرشحة للإعدام دون محاكمة: عبد
الله سعاده، أسد الأشقر، عبد الله قبرصي.
قرار الاتهام، حسم الموقف.
لا بدّ من الرحيل.
ومتى وكيف؟
قلت إن المال نفد ولا من يعيل ولا من يجيب.
ولدي
الأكبر صباح لا ينام الليل. يتصل بأصدقائه لعله يجد حلاً. قيل له إن آل
بلطجي سينقلونني إلى قبرص. قيل له إنه بإمكانه ارتداء لباس طيار والانتقال
بإحدى الشركات إلى روما.
كل الاقتراحات كانت مرفوضة أو مستحيلة. والسبب عصب الحياة مفقود: المال.
في
الحادي عشر من حزيران عاد إلي رسول القيادة من عمان. عاد وهو مجهز بخطة
إنقاذ. كانت زوجتي تبكي بمرارة قبل وصوله لأنه لم يعد أمامي إلا الاستسلام.
كنت
قد درست معها هذا الموضوع؟؟ مع واش مضمون يقبض المكافأة ويسلمنا إياها
لتستر بها شؤون العائلة من مدارس وغذاء وأجور منزل. لا ننسى أن الجائزة
كانت خمسين ألف ل.ل.
كانت
خطة رهيبة ولكنها معقولة. إذ لم يكن مفر من الوقوع في الفخ، فلتقع
بإرادتنا، وبطريقة «فنية» تسد العجز المادي الذي بدأنا نتخبّط في حبائله.
وبالفعل راحت زوجتي بواسطة أقربائها تفاوض وتناور ربحاً للمال أو ربحاً للوقت!...
وحل رسول القيادة، فانحلت كل العقد، إلا مخاوف زوجتي الأمنية.
قلت
لها تخيري بين نارين. لا ينقذنا إلا موقف جريء ومغامرة. الرحيل هو الأجدى.
السجن بالنسبة لي موت محتّم. لم تعد أعصابي ولا جسدي لتحتمل السجن، خاصة
سجن التعذيب والمهانة، والفجور.
وقررت الرحيل في موعد لا تعرفه.
وعدت
أركان الحزب وهم أولادي الثلاثة وصديق؟؟ جوزف عيسى الخوري وطلال توفيق فرح
ابن أخت زوجتي وهو بمثابة أولادي أيضاً. كانوا خمسة. رسمنا خطة النزول من
المخبأ، إلى المرآب، في ساعة تخفّ بها رجل المارة وأعين الفضوليين.
كان ذلك في 16 حزيران 1962.
ساعة الصفر، ساعة الانطلاق حدّدت في الثامنة إلا ربعاً من مساء ذلك النهار.
وفي
الرابعة كان ولدي صباح في المخبأ، ليتأكد من الموعد والإعداد. كنت قد دفعت
إليه بما تبقى معي من مال ليشتري لي ليرات ذهبية. الذهب ذهب. جاءني
بالليرات الذهبية. بلغت الثمانية. يا للثروة!
كنت
قد قرأت الصحف ومنها «النهار». مقالة ميشال أبو جودة أثارتني وأخافتني.
جاء فيها أن العلاقات ساءت بين سوريا ولبنان (من الغرابة أني أكتب هذه
المذكرات والحدود مقفلة بين البلدين بسبب المقاومة الفلسطينية كما يقول
الرئيس حافظ الأسد)، وأن السيارات تفتّش حتى في داخلها، تحت مقاعد الركاب.
قلت لصباح: لا بدّ من إرجاء السفر. المغامرة لم تعد واردة. صار اسمها أكبر من مغامرة.
وجاء
الرسول المنقذ، وقد أخذ الحيطة لكل طارئ. واجهته بالجريدة. امتقع لونه.
قال لي إنه قادم من الشام وإن ما نشرته «النهار» مبالغ فيه. أطرق ملياً ثم
أصدر قراره: «الأفضل أن أعود مرة ثانية لكشف الطريق. انتظرني الاثنين في
مثل ساعة الصفر في نفس هذا المكان. سأعود إليك بالخبر اليقين، سلباً أو
إيجاباً».
فرحت
بالقرار كأنما نجوت من الموت. من لا يخاف من الموت؟ يسوع؟؟؟ طلب أن يعفى
من كأسه. إنها كأس مرة، مترعة بالمرارة. لقد أحسست أني أنزلت عن خشبة
الصليب فيما كان الجلادون قد هيأوا المسامير والمطارق!...
الانتظار والصبر نوع من الشلل أو شلل كامل.
عقيم خيالي وإدراكي.
عيناي
مسمرتان على علامة استفهام كبرى. علامة الاستفهام نفسها في الضباب. يفقد
الإنسان صحة عقله وشعوره وهو ينتظر ويصبر. من أجل ماذا؟؟ من أجل الفرار في
صحراء، قرارها الوحيد قبر بلا جنازة ولا سقف ولا أكاليل!!
ثلاثة أيام بلا محور، بلا تركيز. دوران في فضاء التساؤلات والشكوك.
وجاء
يوم الخلاص: 19 حزيران 1962 الساعة الثامنة إلا ربعاً، كان الفرسان
المنقذون قد نفذوا المهمات الموكولة إليهم بدقّة لا بد من التنويه بها.
عاطف
يرافقني عند الباب إلى المصعد. أهبط أنا في الطابق الأول. أما هو فيكمل
إلى المدخل. أسير أنا وئيداً وطبيعياً. بعد أن خلعت نظارتي ولبست طربوشاً.
وارتديت ثياب الميدان إذا حدث طارئ يومأ إلي فانكفئ. وإلا فاستمر. أدخل
محل السمانة تحت رعاية أبي عصام (هايل عيد). أخرج منه إلى حديقة صغيرة
وراء البناية الضخمة، أتسلق سلالم وضعت خصيصاً من أجلي. اصعد. اهبط. اصعد،
ابلغ باب المرآب الخلفي. الناطور أخذه جوزف وضياء يسقيانه كأساً من البيرة
ليتعالى ضحكهم. صباح في نقاش مع موظف الهاتف ليحول بين عينيه وبيني.
في
الكاراج سيارة شفروليه كبيرة. المنقذ كامل موسى وسائقه الذي لا أعرفه حتى
الآن، يخلعان المقعد الخلفي للركاب. أنام أرضاً، ويضعان المقعد فوقي وأدفن
حياً. ممنوع السعال، ممنوع الكلام. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
في الثامنة تماماً كانت السيارة تخرج من المرآب باتجاه طرابلس ـ حمص. هكذا تقرر خط السير.
خمس ساعات وربع الساعة في القبر الهادر.
دقائق والركاب يتهالكون على مقاعدهم دون أن يدري منهم ان آدمياً يقبع تحتهم، يتنفس، كأنما يحشرج!...
وانطلقت آلة الإنقاذ.
أنا الدفين فيها، بماذا كنت أفكر؟
بعد أحدى عشرة سنة من الزمن، مرّت على تلك الدقائق المرعبة، هل أذكر ماذا دار في خلدي؟
ألا يزال منقوشاً في أعماق الذاكرة، بعض من خلجات النفس، وهي في طريقها إلى الخلاص والى الهلاك؟
بلى إنها النقوش تشبه العناقيد في مغارة قاديشا أو مغارة جعيتا أو مغارة الغواتشارو في شرقي نرفالا.
كان
في جيبي لكي لا اهلك جوعاً خيارة واحدة وحبة كرز كبيرة!... وقد أخذت
الحيطة للجروح، ففي جيب قميصي أضع فيه سبيرتو تلك كانت معدات الهارب
الدفين يحمله قبره إلى المجهول!
كان
قد مضى على دخولي الحزب، ثمانية وعشرون عاماً. كنت قد خبرت المشارد
والمنافي والسجون. كنت قد قطعت المسالك الوعرة وناضلت بالقلم واللسان. كنت
أعرف كل أنواع الحرمان من اليتم إلى أحكام الإعدام. في الكون مرارة ما
مرّت تحت حلقي المتاعب والمصاعب والمخاطر، كانت لي رفقاء وأتراباَ. ولكن
تلك الساعات التي بدأت أقطعها أو تقطعني بين بيروت وطرابلس، كانت فريدة،
غريبة، لا اسم لها ولا مسمى!... كيف لا وأنا دفين وحيّ معاً!...