يمكننا
الآن أن نقول أن كل النظريات المتطرفة التي رافقت سنين جهادنا الوطني
الماضية والتي كان لها شأن كبير في عدم إيجاد حركة وطنية منظمة تجري في
أعمالها على الضبط والدقة المطلوبة لنيل الغاية الشريفة المنشودة قد
ابتدأت الآن، بعد اختبارات طويلة كلفتنا أثمانا باهظة، تتحور تحورا يضمن
انطباقها فلسفيا ومنطقيا على الطور العلمي الذي نريد بواسطته أن نبلغ
الغرض الأقدس الذي نتوق ونسعى إليه من درجة البهائم والدبابات التي
يشبّهنا بها مستعبدو أوطاننا إلى مرتبة نكون فيها بشرا أحرارا نعيش في
بلادنا بالصورة التي نراها أفضل لسعادتنا وراحتنا كما تعيش الشعوب الحرة
في بلدانها بالصورة التي تراها أضمن لراحتها وسعادتها، ألا وهو المستقبل.
لا أعني بالنظريات المتطرفة المرامي، الحقيرة التي ذهب وراءها المتزلفون
وبعض المدّعين الذين اغتنموا الفرصة للظهور بل أعني بها النظريات التي عمل
في سبيلها أحرار مخلصون ذوو نيات حسنة وهي كلها ترمي في وجودها إلى
الاستقلال إلا أن تطرفها كان في كيفية الاستقلال ومبلغه ونوعه ومشتملاته
فمن هذه النظريات نظرية الأحزاب التي خلطت بين القضية الوطنية السورية
وبين القضية العربية العامة ذاهبة إلى أن سوريا جزء متمم لبلاد العرب
وولاية من ولايات المملكة العربية ومنها نظرية الأحزاب التي لتخوفات دينية
وغير دينية ذهبت إلى أن لبنان منفصل عن سوريا وكذلك فلسطين وغيرها من
أقسام سوريا إلى غير ذلك من النظريات الأخرى، بيد أن هذه النظريات التي لم
يكن يحسب أصحابها أنها متطرفة ابتدأت في التحرر والتحول لا بل قد تحررت
وتحولت إلى نظرية واحدة معقولة يمكن تنفيذها وإخراجها إلى حيز الفعل كما
تتحور وتتحول بعد كل النظريات غير المبنية على التروي والإمعان والدرس
والاختبار والنظرية التي قلت أن النظريات المتطرفة في قضيتنا الوطنية
تحولت إليها هي التي جاءت في البيان الآتي الذي وردنا من اللجنة التنفيذية
للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر: "مصر في 1 يناير 1924 "بيان من اللجنة
التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني "عقد اجتماع في مركز اللجنة التنفيذية
للمؤتمر السوري الفلسطيني يمصر في 45 شارع عابدين مساء يوم الثلاثاء
الواقع في 8 يناير الجاري، ضم عددا كبيرا من ذوي الفضل والمكانة من
السوريين المقيمين في مصر وتبادلوا الآراء في ما يجب اجراؤه تجاه زيارة
جلالة الملك حسين لعمان فأجمعت آراؤهم على اختيار وفد مؤلف من نسيم أفندي
صيبعة ونجيب بك شقير وسليم أفندي سركيس للذهاب إلى عمان للترحيب بجلالته
وعينه مهمة الوفد في البيان الآتي الذي تقرر وضعه ونشره بالإجماع وهو: "أن
السوريين وأمامهم بولندا التي اقتسمها الألمان والروس والنمساويون ما
زالوا ولن يبرحوا يعدون سوريا بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ مهما طرأ
عليها من التقلبات الوقتية ولذلك فهم يعتبرون زيارة جلالة الملك حسين
لنجله الأمير عبد الله في عمان زيارة لسوريا في نفس الوقت. وبالنظر إلى
تصريحات جلالته الشفهية والخطية في أوقات متعددة وقوله حفظه الله أنه لا
يرمي من وراء السعي إلى استقلال سوريا أي غرض عائلي بعيد أو إلى أي مصلحة
شخصية قريبة ولكن لإعلاء شأن الجنس العربي الذي يعتز به ومحبة القريب
والعمل بما جاء في الكتاب العزيز من حفظ الجوار ومناصرة الجار رأى
السوريين المجتمعون للنظر في هذا الأمر في مصر إرسال وفد للترحيب بجلالته
والتأكيد لذاته الملوكية، إذا اقتضت الحال وصحت إشاعات الجرائد والشركات
البرقية، أن السوريين لا يتحولون عن مطلبهم الجوهري الذي اتفقت عليه برامج
أحزابهم المختلفة هو استقلال سوريا التام بحدودها الطبيعية ولا يحق لهذا
الوفد أن يدخل في مفاوضات في أي سعي يكون مخالفا لهذا البرنامج ولكي لا
تحوم الظنون والشبهات حول مقاصد هذا الوفد وغاياته نشرنا محضر جلسة تأليفه
هاته على صفحات الجرائد ليطلع عليها السوريين دانيهم وقاصيهم ويكونوا على
بينة من القصد الحقيقي لإرساله وعلى علم تام بمهمته المحدودة فلا يلجأون
إلى التأويل والتفسير". المؤتمر السوري الفلسطيني -"اللجنة التنفيذية".
إن
البيان المثبوت آنفا يفيد بصورة لا تترك مجالا للغموض" أن السوريين ...
مازالوا ولن يبرحوا يعدون سوريا بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ مهما طرأ
عليها من التقلبات الوقتية..." وأيضا "أن السوريين لا يتحولون عن مطلبهم
الجوهري الذي اتفقت عليه برامج أحزابهم المختلفة وهو استقلال سوريا التام
بحدودها الطبيعية..." فهذه هي النظرية المعقولة وهذا محجة الصواب التي
يخفق لها قلبنا اغتباطاً وفرحاً فلقد كانت الأيام الماضية التي كانت تذهب
فيها المحاولات اثر المحاولات على غير طائل للإثبات بالعلوم التاريخية
والفلسفية والمنطقية أن سوريا بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ والتي كانت
فيها الأحزاب السورية مختلفة اختلافا كبيرا ومتضاربة بعضها مع بعض تضاربا
عظيما لا تؤثر فيها نصائح أهل العلم ولا تعمل فيها إرشادات أهل الدرس
والاختبار، أياما مُرة تبعث على اليأس والانسحاق حزنا أما الآن فإننا لا
يسعنا إلا أن نسر لأن السوريين قد تعلموا، بعد خراب البصرة، من اختبارهم
الذي كلفهم كثيراً ما لم يريدوا أن يتعلموه من اختبارات غيرهم ونصائح
وإرشادات وطنييهم الخبيرين المخلصين الذين أذابوا أدمغتهم ومهجهم في سبيل
إيقاف السوريين بعضهم إلى بعض كالبناء المرصوص وجمع كلمة الأحزاب السورية
على طلب لاستقلال التام يوم كان الطلب يجدي بعض النفع ان لم يكن كله. لا
نريد الآن أن نعود الى تلك الأيام التي كانت لدى كل وطني مخلص يقدَر عواقب
الأمور جحيما له على الأرض ولكننا نريد أن نبحث قليلا في هذه اللجنة
التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني في بيان صريح هو الأول من نوعه على ما
نعلم في تاريخ مؤتمراتنا ثم نلقي نظرة على تأثير هذه النظرية في النظرية
المعقولة التي أجمع عليها السوريين والأحزاب السورية وأذاعتها نهضتنا
الوطنية وما هو شأنها في حاضرنا ومستقبلنا من حيث كوننا أمة تريد أن تحيا
حياة تفيدها في راحتها وسعادتها وتفيد الإنسانية في تقدمها وارتقائها وما
تضعه أمامنا من الممكنات وما تجعله فينا من القوى التي تمكننا من السعي
المتواصل والعمل المنتظم وانتهاز الفرص السانحة لنيل الاستقلال والحرية
اللذين بهما وحدهما يمكننا أن نكون أمة حية لها حريتها وحقوقها في عالم
الحياة وعليها فروضها وواجباتها نحو الإنسانية جمعاء التي تحتاج إلى الأمم
الصغيرة الناهضة العاملة في بناء الحق أكثر كثيراً مما تحتاج الى الأمم
الكبيرة العاملة في بناء الباطل. النظرية المتقدمة هي التي قال بها كتابنا
ومفكرونا وانتمى لها كل المتنورين منا لأنها النظرية الوحيدة التي يمكن
تطبيقها على الحقائق الفلسفية والاجتماعية والتاريخية التي تتناول حياتنا
نحن السوريين جاعلة منا مجموعا لا يمكن بعضه مهما كانت حجته أن يتنصل من
البعض الآخر، وهذه النظرية يمكن إثباتها بدون الاضطرار إلى الالتجاء إلى
العلوم الاختصاصية بل بالدروس الفلسفية وبعض الاجتماعات التي لا تجعلنا أن
نتدرج من بحث ضيق محدود إلى بحث واسع غير متناه قد لا تقف فيه تأملات
المفكر عند قرار فنحن هنا نريد أن ننظر في مجموعنا المنفصل عن سائر
المجاميع الأخرى كما يجب أن ينظر فيه على هذه الكيفية لا على الكيفية
السابقة لوجوده فيها كما كان ذلك ممكنا على عهد الفتح العربي أو على عهد
الفتح التركي وهنا يجب علينا التنبيه إلى أن قضيتنا الوطنية التي تكلم
عنها الغير كأنها قضيتهم الخاصة قضية خاصة بنا نحن ليس لأحد غيرنا أن
يتصرف بها كما يرد وذلك باعتبارنا منفصلين عن غيرنا انفصالا تاما كما هو
الواقع، لذلك يجدر بنا أن نتكلم عنها بالحرية في مثل هذا الموقف ولكن لا
بد لنا قبل ذلك من أن نثبت انفصال مجموعنا ووحدته التي تكلم عنها بعض
السطحيين كأنها شيء غير موجود ثم توصلوا بعد تفكير ممل كان أشبه بحساب "
خمس وخمس ستة" إلى القول أنها شيء لا يمكن وجوده.
ليس
أمامنا في طول التاريخ وعرضه شهادة تاريخية واحدة ثابتة تدلنا على أننا
ألفنا في الماضي البعيد أو القريب وحدة عنصرية كاملة أو وحدة مدنية ثابتة
أو حدة سياسية راسخة مع أمة أخرى بل كل ما كان هنالك فتوحات وغزوات عديدة
من كل حدب وصوب كان لبعضها تأثيرا في البلاد السورية أكثر من غيرها مثل
الفتح الروماني والفتح العربي أما الفتح التركي فلم يؤثر في البلاد إلا من
الوجهة السياسية البحتة ومع أننا لم نكن في زمن من أزماننا الماضية
مستقلين استقلال امة كاملة فإننا رغما من كل الفتوحات والغزوات التي أدخلت
فينا عناصر وجنسيات غريبة بقينا أمة واحدة كاملة كيفت من مختلف عناصرها
وجنسياتها عوائد وتقاليد ومدنية امتازت هي دون غيرها بها ومع أن الإسلام
أصبح هو القوة الوحيدة التي أثرت بنوع خاص على المدنية السورية فإن
الإسلام أصبح بعد دخوله سوريا وبقائه فيها ديانة تخص سوريا كما تخص سائر
العالم لأن الإسلام وإن يكن قد ابتدأ على هيئة حركة وطنية عربية فقد أصبح
أخيرا قوة روحية عالمية لا تخص العرب أكثر مما تخص سواهم. وإذا أضفت إلى
ما تقدم للأدلة الجغرافية التي تفصل بلادنا بخطوط طبيعية واضحة عن البلدان
الأخرى ظهر لك جليا أننا مجموع بحق يدعى أمة سورية وأن لنا بلاداً بحق
تسمى وطنا كاملا لا يمكن تجزئته كما سنبينه في الكلام على وحدتنا. فوحدتنا
من حيث أننا مجموع واحد يعيش في بلاد واحدة أمر موجود لأنه طبيعي والذي
يزيد وحدتنا حتمية كوننا منفصلين عن غيرنا انفصالا تاما وشعورنا بهذا
الانفراد، فنحن، رغم تنابذنا في أمور كثيرة نرانا كتلة واحدة تتأثر
بالعوامل تأثرا واحدا لا نقدر أن ننكره بصورة ما وهوذا جاليتنا في
البرازيل وجوالينا الباقية في البلدان الأخرى شواهد حية تلك على أننا كنا
ولا نزال نعيش مجموعا واحدا في البلدان الأخرى شواهد حية تدلك على أننا
كنا ولا نزال نعيش مجموعا واحدا سواء كنا في وطننا أو خارجه. إذا بقي عند
أحد شك في أننا مجموع متحد فليهب إلى أي فرد من أفرادنا المتنورين ويباحثه
فيزول شكه أو ذا كان يريد برهانا من غير المتنورين فيذهب إلى الفلاحين
وسائر العامة وليراقب أعمالهم متنقلا من بلد إلى بلد يرى من ترابطهم بعضهم
ببعض، بصرف النظر عن الوجهة الدينية التي لا تزال سلطتها الزمنية ذات صولة
قوية في سورية، برهاناً يفحمه ومن الأمور التاريخية العجيبة التي يحق لنا
الافتخار بها أننا رغما من كل الأمم التي قدمت من أربعة أقطار المسكونة
لابتلاعنا وجعلنا جزءا منها بقينا سوريين وأرغمنا عناصر تلك الأمم الغازية
فينا على كيفية أصبحت معها من صميمنا تعيش عيشتنا وتشعر شعورنا وتتأثر
تأثرنا وأصبحنا وإياها أمة واحدة. يجدر بنا الآن بعد أن توصلنا إلى
النتيجة المتقدمة أن نأتي على تعليل النظريتين المتطرفتين اللتين كانتا
اكبر العوائق التي قامت في سبيل سير قضيتنا الوطنية سيرا منظما محمودا وما
نظرية الأحزاب والأفراد القائلة بأننا عرب وأن بلادنا تؤلف جزءا من
امبراطورية عربية والنظرية الأخرى المعاكسة لها تماما وهي نظرية الأحزاب
والأفراد القائلة أننا أجزاء متعددة، كل جزء منا أمة ودولة مستقلة أما
النظرية الأولى فدعامتها الكبرى التي استند إليها القائلون بها الاسلام
الذي هو العلاقة الوحيدة التي بقيت لبلاد العرب بنا بعد علاقتي العنصر
واللغة اللتين اضمحلتا الآن اضمحلالا تاما من حيث أنهما علاقتان تؤثران في
كون سوريا أمة تأثيرا يفيد عكس ذلك فالسوريون الذين يعودون في الأصل إلى
عنصر عربي لم يعد فيهم من ذلك العنصر ما يميزهم به إلا الاسم وهذا أيضا لم
يعد يعول عليه الآن بعد الامتزاج الغريب الذي حدث بين العناصر المختلقة
التي وجدت في سوريا على كيفية مدهشة ومع أن السوريين إجمالا لهم تعلق
بالصفات التي اشتهر بها العرب كالمروءة ولشهامة والعفة والكرم وما شاكل،
فأنك إذا أدخلت فريقا من السوريين بطريقة ما إلى داخلية بلاد العرب لوجدوا
من الفوارق المتعددة بينه وبين العرب ما يجعلهم لا يطيلون الإقامة معهم
إلا مضطرين أما الإسلام فقد توهم كثيرون أنه يكفي لتجريدنا من سوريتنا
وإدغامنا في العرب إدغاما لا يعود يفرقنا عنهم في شيء وهو غلط واضح لا
يشفع في مرتكبيه إلا حسن القصد وعدم التعمق في نظرياتهم تعمقاً يدركون معه
الحقيقة، ذلك لأن الإسلام خرج من السيطرة العربية منذ ابتدأ أن يدين به
غير العرب فهو في سوريا ديانة سورية كما انه في الهند ديانة هندية وفي
تركيا ديانة تركية. إنه أصبح دينا للعالم وقوة روحية عالمية كما أصبح
الدين المسيحي كذلك بعد أن كان ديناً وُجد لليهود أولا وأظن أن ما تقدم
كاف لتعليل هذه النظرية وتبين خلوها من الحقائق الحيوية التي لا بد من
الاستناد إليها في مثل هذه الأبحاث والنظريات.
أما
النظرية الثانية القائلة بوجوب تفكيك عرى وحدتنا وقسمتنا إلى أمم ودويلات
تكون أضحوكة الأضاحيك التاريخية فمن الأمور المعيبة التي قام بها ضيقو
الصدور وضعيفو الإرادة والمدارك وإذا كان لا بد من إيجاد تعليل معقول لها
يمكن البت فيه بصورة جدية فهذا التعليل منحصر في أمرين: الأول منهما الخوف
من الإجحاف الذي قد يلحق الأقلية عند نيل الاستقلال وهو ما حدا بمسيحيي
لبنان إلى اعتبار لبنان أمة ودولة منفصلة عن جسم سوريا وقاموا يدعون إلى
هذه العقيدة لا بين المسيحيين فقط بل بين المسلمين والدروز أيضا محاولين
أن يقنعوهم بأنهم هم في لبنان يؤلفون جزءا من "الأمة اللبنانية" لا من
الأمة السورية. الأمر الثاني هو التزلف وحب الأثرة والظهور اللذان يدفعان
أصحابهما إلى متابعة هذه النظرية لأنها تدر عليهم مالا ووظائف وأوسمة تنعم
بها عليهم دولا أجنبية. أما البحث في الأمر الأول فيكفي أن نبين أنه ليس
في وسع أحد من الذين يعتقدون ويقولون بصحته أن يأتوا ببرهان واحد يشفع
فيما يقولون لأنه لا براهين هنالك فليس في استطاعة القائلين بالأمة
اللبنانية أن يأتوا بفارق واحد يميز بين المسيحي المقيم في لبنان والمسيحي
المقيم في خارجه أو بين المسلم المقيم في لبنان والمسلم القاطن خارجه أو
بين الدرزي في لبنان والدرزي خارجه أي انه ليس في استطاعهم أن يأتوا
بفوارق تميز بين اللبنانيين وسائر السوريين اللهم إلا الفوارق السطحية
التي تميز سكان في أي بلاد كانت وسكان غيرها من ذات البلاد كالفرق بين
سكان لندن في انكلترا وسكان بليموت أو مانشستر أو الفوارق التي تميز بين
أي إنسان على وجه البسيطة وإنسان آخر وهذه لا يعول عليها في هذا المبحث
مطلقا وهنا يبدو لك سقوط حجة الذاهبين إلى الانقسام بصورة لا تقبل التردد
والشك. والظاهر أن السوريين قد أدركوا هذه الحقائق أو أبتدأوا يدركونها
كما قلت سابقا بالاستناد إلى البيان الذي أذاعه المؤتمر السوري الفلسطيني
فإذا كان هذا الإدراك حقيقة ثابتة وهو ما نرجحه فأن حاضرنا ومستقبلنا قد
تغيرا تغيرا حسنا جدا وأصبحنا أمام عمل حقيقي مقرر وهذا يعني أننا قد
انتقلنا من طور التفكير والإمعان الذي ينفسح فيه المجال لمفكرينا لإبداء
الآراء بصراحة والخلاصة أننا أصبحنا الآن أمام عمل جدي يجب البحث فيه
بصورة جدية. الفرق بيننا الآن وكما كان عليه في تلك الأيام التي كان فيها
كل مبدع صاحب النظرية الصحيحة أننا أصبحنا ندرك قضيتنا الوطنية من وجهتها
الحقيقية وصار في إمكاننا أن نبحث ونعمل فيها من هذه الوجهة فيوم كنا
نلتئم لكي ننظر في هل يجوز حسبان لبنان داخلا في القضية الوطنية السورية
أم لا وهل يمكن أن تكون القضية السورية خارجة عن القضية العربية قد مضى
وانقضى لا أعاده الله وصرنا الآن في يوم يجب أن نجتمع فيه للنظر في كيف
يمكننا أن نعمل ونساعد في إبلاغ قضيتنا الوطنية متمناها. إذاً حاضرنا قد
تغير بتأثير هذه النظرية وكذلك مستقبلنا فأنه أصبح على طريق واضحة أمامنا
أما الممكنات التي تخولنا هذه النظرية استعمالها فأهمها إمكانية توحيد
قوانا وإمكانية البحث في قضيتنا بصراحة لأنها أصبحت قضية مقررة وإمكانية
إيجاد حركة منظمة مبنية على التفاهم التام تسير في أعمالها بنشاط ودقة
وهنالك فرص كثيرة تعرض لنا يوم تقريبا لم نكن نتمكن من انتهازها في الماضي
أما في الوقت الحاضر والمستقبل فإننا يجب علينا أن لا ندعها تمضي دون أن
نستفيد منها وأننا إذا تابعنا هذه النظرية في أحزابنا ومؤتمرات أحزابنا
المقبلة كانت فائدتنا المطلوبة محتمة كالقضاء والقدر. وهنا أحب أن أوجه
كلمة إلى الجالية السورية في البرازيل خصوصا وسائر الجوالي السورية الأخرى
عموما وهي ما هو موقفها، أيدها الله، تجاه هذه الخطوة الجديدة. ألا يجب
عليها أن تسرع إلى الانضمام إلى مفكريها والعمل بإرشاداتهم ونصائحهم لأجل
خلاص وطنها الذي ليس هنالك تعاسة ينفطر لها القلب حزنا أكبر من تعاسته؟
إذا كان أحد يشك في وجود هذه التعاسة فليذهب إلى ذلك الوطن التعيس وهنالك
يشاهد ويسمع ما يذيب مهجته ويحرق قلبه - هناك يرى الفتيات يبكين وينحن على
أهلهن وأنفسهن وليس هنالك من يشفق ويعزي وليس سرور في مكان ما - هناك
اليتامى تعول والثكالى تنوح ومصائب الفحش والموبقات تربي على ويلات الحروب
والنكبات - هناك يرى الناظر من بقي من الأمهات تحضن من بقي من الأطفال
ويجلسن الليل كله ساهرات منقبضات القلوب، مرتجفات الأعضاء، يتوقعن في كل
دقيقة من دقائق الليل قدوم طارق يريد انتزاع الولد من أمه أو انتزاع الأم
من ولدها - هذه هي تعاسة الوطن الذي ننتسب نحن إليه ولا يمكننا أن ننكر
أننا تحت سمائه رأينا للمرة الأولى في حياتنا نور الحياة! فماذا تريد
الجوالي السورية في المهاجر كلها أن تعمل في سبيل وطنها؟ هو ذا أبواب
القبور قد انفتحت على مصاريعها وخرج منها الأموات يطلبون الحياة والحرية
أفيرى الأحياء هذه العجائب التي تحدث أمامهم دون أن يتأثروا هم. من أراد
أن يضحك فهناك أوقات كثيرة للضحك أما الآن فأن الموقف مهيب لأننا أمام
الوطن والتاريخ وجها لوجه. فمن لا يستحي من نفسه فيجب على الأقل أن يستحي
منهما!
أنطون سعاده
"المجلة" الجزء الأول، السنة العاشرة، شباط 1924