المبدأ الثالث : القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري .
يتناول
هذا المبدأ تحديد القضية السورية الواردة في المبدأ السابق تحديداً لا
يقبل التأويل، وهو يظهر العلاقة الحيوية، غير القابلة الفصل، بين الأمة
والوطن. فالأمة بدون وطن معين لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه، وهذا
الوضوح في تحديد القضية القومية يخرج معنى الأمة من الخضوع لتأويلات
تاريخية أو سلالية أو دينية مغايرة لوضع الأمة ومنافية لمصالحها الحيوية
والأخيرة. إن وحدة الأمة والوطن تجعلنا نتجه نحو فهم الواقع الاجتماعي
الذي هو الأمة بدلاً من الضلال وراء أشكال المنطق الصرف وتراكيب الكلام.
وإن
الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة ولذلك
لا يمكن تصور متحد إنساني اجتماعي من غير بيئة تتم فيها وحدة الحياة
والاشتراك في مقوماتها ومصالحها وأهدافها وتمكن من نشوء الشخصية
الاجتماعية التي هي شخصية المتحد ــ شخصية الأمة.
المبدأ الرابع : الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي .
يتبع
هذا المبدأ مبدأ التسلسل التحليلي. فهو تحديد لماهية الأمة المذكورة في
المواد السابقة. وهو من حيث مدلوله الاثنلوجي يحتاج إلى تدقيق وإمعان. ليس
القصد من هذا المبدأ رد الأمة السورية إلى أصل سلالي واحد معين، سامي أو
آري، بل القصد منه إعطاء الواقع الذي هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ
طويل يشمل جميع الشعوب التي نزلت هذه البلاد وقطنتها واحتكت فيها بعضها
ببعض واتصلت وتمازجت، منذ عهد أقوام العصر الحجري المتأخر السابقة
الكنعانيين والكلدان في استيطان هذه الأرض، إلى هؤلاء الأخيرين إلى
الأموريين والحثيين والآراميين والأشوريين والأكاديين الذين صاروا شعباً
واحداً. وهكذا نرى أن مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس
الذي هو المبدأ الوحيد الجامع لمصالح الشعب السوري، الموحد لأهدافه ومثله
العليا، المنقذ القضيّة القومية من تنافر العصبيات الدموية البربرية
والتفكك القومي.
إن
الذين لا يفقهون شيئاً من مبادئ علم الاجتماع، ولا يعرفون تاريخ بلادهم،
يحتجون على هذه الحقيقة بادعاء خلوص الأصل الدموي وتفضيل القول بأصل واحد
على الاعتراف بالمزيج الدموي. إنهم يرتكبون خطأين، خطأ علمياً وخطأ
فلسفياً. فتجاهل الحقيقة التي هي أساس مزاجنا ونفسيتنا وإقامة وهم مقامها،
فلسفة عقيمة تشبه القول بأن خروج جسم يدور على محور عن محوره أفضل لحركته
! أما ادّعاء نقاوة السلالة الواحدة أو الدم فخرافة لا صحة لها في أمة من
الأمم على الإطلاق وهي نادرة في الجماعات المتوحشة، ولا وجود لها إلا
فيها.
كل
الأمم الموجودة هي خليط من سلالات المفلطحي الرؤوس والمعتدلي الرؤوس
والمستطيلي الرؤوس ومن عدة أقوام تاريخية. فإذا كانت الأمة السورية مؤلفة
من مزيج من الكنعانيين والآراميين والأشوريين والكلدان والحثيين
والأكاديين والمتني فإن الأمة الفرنسية مؤلفة من مزيج من الجلالقة
واللغوريين والفرنك الخ. وكذلك الأمة الإيطالية مؤلفة من مزيج من الرومان
واللاتين والسمنيين والاتروريين ((الاتروسكيين)) الخ. وقس على ذلك كل أمة
أخرى. ((السكسون والدانمركيون والنرمان، هذا ما نحن)) هكذا يقول تنيسن في
أمته الإنكليزية. أما أفضلية خلوص الأصل ونقاوة السلالة على الامتزاج
السلالي (خصوصاً بين السلالات الراقية المتجانسة) فقد قام الدليل على
عكسه، فإن النبوغ السوري وتفوق السوريين العقلي على من جاورهم وعلى غيرهم
أمر لا جدال فيه فهم الذين مدنوا الإغريق ووضعوا أساس مدنية البحر المتوسط
التي شاركهم فيها الإغريق فيما بعد. لقد كان النبوغ الإغريقي في اثينة
المختلطة لا في اسبرطة الفخورة بأنسابها، المحافظة على صفاء دمها.
ومع
ذلك لا بد من الاعتراف بواقع الفوارق السلالية، ووجود سلالات ثقافية،
وسلالات منحطة، وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي. وبهذا المبدأ
يمكننا أن نفهم أسباب تفوق السوريين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج
المطلق بل إلى نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة تجانساً قوياً
مع نوعية البيئة.
إن
مدلول الأمة السورية يشتمل على هذا المجتمع الموحد في الحياة، الذي امتزجت
أصوله وصارت شيئاً واحداً، وهو المجتمع القائم في بيئة واحدة ممتازة عرفت
تاريخياً باسم سورية وسماها العرب ((الهلال الخصيب)) لفظاً جغرافياً
طبيعياً محض لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمة وشخصيتها. فالأصول المشتركة:
الكنعانية ــ الكلدانية ــ الآرامية ــ الأشورية ــ الأمورية ــ الحثية ــ
المتنية ــ الأكادية ــ التي، وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية لا
جدال فيها، هي أساس اتني ــ نفسي ــ تاريخي ـ ثقافي، كما أن مناطق سورية
الطبيعية (الهلال الخصيب) هي وحدة جغرافية ــ زراعية ــ إقتصادية ــ
إستراتيجية.
إن
هذه الحقيقة الإتنية والجغرافية كانت ضائعة ومشوشة لتبعثرها في الحوادث
التاريخية المتعاقبة، التي طمست الآثار وأقامت التعاريف الأجنبية المتعددة
مقام حقيقة الواقع، ولتنوع الترجمات المتعددة لحوادث التاريخ القومي. فإن
عدداً من المؤرخين قصر تعريف سورية على سورية البيزنطية أو الإغريقية
المتأخرة الممتدة من طوروس والفرات إلى السويس، فأخرج الأشوريين والكلدان
وتاريخ بابل ونينوى من تاريخ سورية. وإنّ عدداً آخر قصر تعريف سورية على
البقعة ما بين كيليكية وفلسطين، فأخرج فلسطين أيضاً من تحديد سورية. وجميع
هؤلاء المؤرخين هم أجانب لم يدركوا واقع الأمة السورية وواقع بيئتها
وتطورات نشوئها. وقد جاراهم أكثر المشتغلين بالتاريخ من السوريين
المتعلمين من التواريخ الأجنبية بلا تحقيق فالتبست علينا الحقيقة وضاعت
معها قضيتنا الحقيقية، إلى أن أكملت تنقيبي وتحليلي وتعليلي، وحددت
النتيجة في هذه المبادئ وأفصلها بكاملها في كتاب علمي على حدة. إن تاريخ
الدول السورية القديمة الأكادية والكلدانية والأشورية والحثية والكنعانية
والآرامية والأمورية تدل كلها على اتجاه واحد: الوحدة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب.
هذه
الحقيقة تجعلنا نفهم الحروب الأشورية والكلدانية للسيطرة على جميع سورية
فهماً جديداً يخالف الفهم المستمد من التحديدات غير الصحيحة. فهذه الحروب
هي حروب داخلية. هي نزاع على السلطة بين قبائل الأمة الآخذة في التكون
والتي استكملت فيما بعد تكونها. وإن الكلدان والآراميين هم شعب واحد في
الأصل، ولسان واحد، فاللغة الآرامية هي الكلدانية، والأشوريون هم شق منهم
أيضاً.
لا
ينافي هذا المبدأ، مطلقاً، أن تكون الأمة السورية إحدى أمم العلم العربي،
أو إحدى الأمم العربية. كما أن كون الأمة السورية أمة عربية لا ينافي أنها
أمة تامة لها حق السيادة المطلقة على نفسها ووطنها. ولها، بالتالي، قضية
قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى. الحقيقة أن
الغفلة عن هذا المبدأ الجوهري هي التي أعطت المذاهب الدينية في سورية
المدية، التي قطعتها بين نزعة محمدية عربية ونزعة مسيحية فينيقية ومزقت
وحدة الأمة وشتّتت قواها.
إن
هذا المبدأ ينقذ سورية من النعرات الدموية، التي من شأنها إهمال المصلحة
القومية العامة والإنصراف إلى الانشقاق والفساد والتخاذل. فالسوريون الذين
يشعرون أو يعرفون أنهم من أصل آرامي، لا يعود يهمهم إثارة نعرة دموية
آرامية ضمن الأمة والبلاد، ما دام هنالك اتباع لمبدأ الوحدة القومية
الاجتماعية والتساوي في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والاجتماعية
بدون تمييز بين فارق دموي أو سلالي سوري.
وكذلك
الذي يعلم أنه منحدر من أصل فينيقي (كنعاني) أو عربي أو صليبي لا يعود
يهمه سوى مسألة متحده الاجتماعي، الذي تجري ضمنه جميع شؤون حياته، والذي
على مصيره يتوقف مصير عياله وذريته وآماله ومثله العليا. هذا هو الوجدان
القومي الصحيح. فإذا كانت النعرة الفينيقية هي الـThese والنعرة العربية هي الـAntithese
أو بالعكس، أي إذا كانت النعرتان الدينيتان تضعان نظريتين متعارضتين، فمما
لاشك فيه أن مبدأ وحدة الأمة السورية المؤلفة من سلالتين أساسيتين
مديترانيّة وآرية، من العناصر التي كونت في مجرى التاريخ المزاج السوري
والطابع السوري النفسي والعقلي، هو المبدأ الذي يقدم الـSynthese
أو المخرج النظري من تعارض النظريتين مذهباً واحداً هو القومية. إن في هذا
المبدأ إنهاء جدل عقيم يهمل الواقع المحسوس ويتشبث باللاحسي. جدل يحل علم
الكلام محل علم الاجتماع. لا يمكن أن يؤول هذا المبدأ بأنه يجعل اليهودي
مساوياً في الحقوق والمطالب للسوري، وداخلاً في معنى الأمة السورية.
فتأويل كهذا بعيد جداً عن مدلول هذا المبدأ الذي لا يقول، مطلقاً، باعتبار
العناصر المحافظة على عصبيات أو نعرات قومية أو خاصة، غريبة، داخلة في
معنى الأمة السورية. إن هذه العناصر ليست داخلة في وحدة الشعب.
إن
في سورية عناصر وهجرات كبيرة متجانسة مع المزيج السوري الأصلي، يمكن ان
تهضمها الأمة إذا مر عليها الزمن الكافي لذلك، ويمكن أن تذوب فيها وتزول
عصبياتها الخاصة. وفيها هجرة كبيرة لا يمكن بوجه من الوجوه أن تتفق مع
مبدأ القومية السورية هي الهجرة اليهودية. إنها هجرة خطرة لا يمكن أن تهضم
لأنها هجرة شعب اختلط مع شعوب كثيرة فهو خليط متنافر خطر وله عقائد غريبة
جامدة وأهدافه تتضارب مع حقيقة الأمة السورية وحقوقها وسيادتها ومع المثل
العليا السورية تضارباً جوهرياً. وعلى السوريين القوميين أن يدفعوا هذه
الهجرة بكل قوتهم.