يحاول
الصهيونيون اليوم أن يخالفوا الاعتقادات الشائعة في العالم عن تحديد موت
الأمم موتاً أبدياً تبعاً لحالات معينة وسنن طبيعية واضحة قام بشرحها
وتحليلها فريق كبير من مشاهير مفكري العالم .
تعتبر
الأمة اليهودية اليوم أمة بائدة. وهي بائدة فعلاً رغماً من محاولة
الصهيونيين ستر الحقيقة بالقول أن اليهود أمة متفرقة لا ينقصها إلا أن
تجتمع في بقعة من الأرض تكون وطناً لها. فتشتت اليهود في جميع أقطار
العالم مدى أجيال طويلة يعني القضاء على وجود أمة يهودية، إذ لا يمكن أن
يكون اليهود قد احتفظوا كل هذه المدة بعنصرهم خالصاً. وعلى افتراض أن هذا
ممكن وواقع، فمما لا شك فيه أنه لا يمكن أن يكونوا قد بقوا تحت تأثير
أفكار إسرائيلية بحتة، بل المعقول أنهم تشربوا أفكار الشعوب التي نزلوا
بينها.
بيد
أن اليهود، وخصوصاً الصهيونيين منهم، يعتقدون كثيراً بالعنصر. وقد قال
الزميل الأستاذ "حبيب إبراهيم كاتبه" في مقالة له تحت عنوانها "هل نحن
عرب؟" ما يأتي: "قال أحد كبار المفكرين اليهود ما معناه إنني بمشاربي
الأدبية ألماني وبأميالي الاجتماعية أميركي. فـ " شلر" و "غويتي" و "كانت"
لهم مقام سام في قلبي ولكنني مع كل ذلك يهودي بالعنصر. والحق أنه ألماني
أميركي إذ إنه لم يترك للعنصر اليهودي ما يميزه به أي الاسم".
ومن
هنا نفهم جيداً مبلغ تعلق اليهود بالعنصر ونعرف لماذا يؤلفون مجاميع
مضطهدة وسط أمم شتى. ولولا التشبث بالعنصرية الفارغة لما كنا نسمع اليوم
بحركة يهودية صهيونية وبادعاءات صهيونية تضحك الثكلى.
نفتح
الآن مسألة الصهيونية بمناسبة قدوم أحد زعماء الحركة الصهيونية لبث الدعوة
والتحريض على إيجاد الوطن القومي اليهودي في فلسطين. فقد حضرنا محاضرة هذا
الزعيم الصهيوني الذي يدعى "الدكتور موسنسن" في إحدى قاعات ترمينس برفقة
صديقنا الحميم وزميلنا السيد توفيق قربان. ورغماً من أن الدكتور المشار
إليه تكلم بلغة الجرغون أو "السكناجي" التي هي خليط من اللغة الألمانية
والعبرانية فقد تمكنّا بعد الجهد من فهم النقط الأساسية والإيضاحات
الجوهرية التي أبداها الخطيب.
نترك
الرد على كلام الدكتور موسنسن وادعاءاته من الوجهة التي تهم العالم
الخارجي للصديق توفيق قربان الذي أنشأ مقالاً باللغة البرتغالية وسينشره
في بعض الصحف الوطنية. ونحن لا نريد الآن إلا أن نأتي على القضية
الصهيونية من الوجهة التي يهمّ السوريين خصوصاً الوقوف عليها، أي الوجهة
التي تتعلق بالقضية الوطنية السورية.
الباعث
على الحركة الصهيونية في الدرجة الأولى أفكار جماعة تريد أن توجد من يهود
العالم المختلفي النزعات والمشارب،.. والمتبايني الأخلاق والعوائد، أمة
إسرائيلية. ومع أن هذه العملية غير طبيعية، فإن انتشارها بين اليهود
المضطهدين جعل لها صفة إمكانية الحدوث. وهذا هو الفصل الأول من رواية
الصهيونية التي جاء الدكتور موسنسن من أرض الميعاد ليمثل بعض أدوارها في
البرازيل.
لا
نعترض على فكرة تأليف أمة إسرائيلية من يهود العالم، لآن اعتراضنا يكون إذ
ذاك من قبل المداخلة في شؤون لا تعنينا. وإذا كان في إمكان اليهود أن
يؤلفوا أمة واحدة فليفعلوا، ولكننا نرى من باب الشعور مع اليهود أن ننصحهم
بالعدول عن هذه المسألة لأنها مسألة ليس من ورائها إلا تعب ووجع رأس، لأن
الأمة لا معنى لها إذا لم يكن لها بلاد تمارس فيها معتقداتها وأفكارها.
واليهود لا بلاد لهم فضلاً عن أنهم لا يكوّنون اليوم أمة واحدة هم في غنى
عن تكوينها، لأنه لا مكان لها تحت الشمس. بيد أن الصهيونيين يريدون أن
يكوّنوا الأمة الإسرائيلية مهما كلفهم الأمر، وأن يوجدوا لها مكاناً تحت
الشمس، وهو المكان الذي خرج منه الإسرائيليون كما دخلوا - هو فلسطين أرض
الميعاد، وهذا أهم فصول رواية الصهيونية الغريبة!!
ولمّا
كان لا بد للحركة الصهيونية من مبرر، لجأ الصهيونيون إلى فلسفات غريبة،
وقالوا إن اليهود يجب أن يتخلصوا من الاضطهاد على أنفسهم. بيد أننا نعلم،
كما يعلم العالم كله، كيف يعيش اليهود جماعات مستقلة وسط شعوب يأخذون من
مالها وتهذيبها دون أن يفيدوها في شيء. لقد قام في بلدان كثيرة نوابغ
يهود، ولكن قيام نوابغ يهود لا يعني أن هؤلاء أرادوا أن يعطوا الشعوب التي
يمتصون دماء قلوبها بدل ما يأخذون. فالهيئة الاجتماعية لا تحكم لمجموع او
عليه بمجرد النظر إلى أفراد قلائل منه. ومتى أردنا التحليل سألنا سؤالاً
بسيطاً،.. هو: هل غير النوابغ اليهود صفة اليهود؟
لم
يقم قط نابغة يهودي تمكن من أن يغرس في قلوب اليهود صفة التقرب من الشعوب
التي يعيشون بينها، والتضامن معها في أعمالها الإجتماعية والعمرانية. فظل
اليهود بنوابغهم كاليهود بلا نوابغهم يعيشون كالحلميات، آخذين من قلب
الهيئة الاجتماعية بلا مقابل. أفبعد هذا يتذمر اليهود من اضطهاد الشعوب
الحية لهم؟
يوجد
فريق من اليهود الراقين يفهم العلل وأسبابها، ويعرف عقم دعوة الصهيونيين،
ويحاربها من أجل اليهود كما من أجل الإنسانية جمعاء. وقد اشتهر من هذا
الفريق مورغنثو "سفير الولايات المتحدة السابق في تركية"،.. وله في هذا
المجال حملات صادقة أثبت فيها فساد الحركة الصهيونية من وجوه كثيرة. ولكن
لا يمكننا أن ننتظر من هذا الفريق أن يشهر حرباً على الصهيونية، فذلك ليس
من شأنه.
لا
يعضد الحركة الصهيونية من العالم الخارجي إلا وعد بلفور بجعل فلسطين وطناً
قومياً لليهود. وهذا الوعد هو ضد الرأي العام في الشرق والغرب معاً، فلا
الشعوب المسيحية ترضى عنه، ولا الشعوب الإسلامية ولا غيرها،
لأنه فضلاً عن أن فلسطين أرض سورية لا يجيز الحق الطبيعي والاجتماعي إخراج
السوريين منها وإعطاءها لطبقة منحطة من اليهود، تأتي من نواحي بولونية وما
جاورها، فهي مبعث المسيحية وقسم من البلاد التي ازدهر فيها الإسلام.